إِلى كَم ذا التَخَلُّفُ وَالتَواني ** وَكَم هَذا التَمادي في التَمادي
وَشُغلُ النَفسِ عَن طَلَبِ المَعالي ** بِبَيعِ الشِعرِ في سوقِ الكَسادِ
أيقول هذا الكلامَ الشاعرُ الأبرز في تاريخ الأدب العربي؟ طالما ألحّ عليّ السؤال وأنا أستحضر البيتين الشهيرين لشاعرنا العظيم، لا سيما البيت الثاني، فالتصريح فيه واضح بدونيّة الشعر في سوق المعالي، بل بإقصاء الشعر عن مقاصد طلب المعالي جملة واحدة؛ فالمعالي لدى شاعرنا ليست سوى الولاية أو السلطة بصفة عامة بحسب ما نعرف من طموحه ودوافعه النفسية المعلنة؛ ولعل الواحدي والعكبري قد أشارا في شرح البيتين إلى المُلك تحديداً بوصفه مرام المتنبي الذي استبطأه. قال العكبري في شرح البيت الثاني: “وكم هذا الاشتغال عن طلب المعالي؟ يريد الملك والرياسة”، وقال في شرح البيت الذي يسبقه: “يقول: إلى كم أتخلف عما أطلبه من الملك وأتوانى فيه، أي إلى كم أبلغ المدى في التقصير؟ فكأنه يستبطئ نفسه فيما يروم. والتمادي في التمادي: أن يتابع تماديه في طلبه لما يطلب من أخذ الملك بسيفه”، واستطرد في لمحة سخرية بديعة: “ولعله يطلب أن يسترد ملك أبيه عيدان السقاء!”.
نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: أحكام المتنبي المطلقة
بيد أن شاعرنا المولع بالمزايدة في مبالغاته يتجاوز المُلكَ بوصفه مرادف المعالي إلى حيث يغدو المجدُ عنده متمثِّلاً في السيف والفتك، بل قطع أعناق الملوك:
وَلا تَحسَبَنَّ المَجدَ زِقّاً وَقَينَةً ** فَما المَجدُ إِلّا السَيفُ وَالفَتكَةُ البِكرُ
وَتَضريبُ أَعناقِ المُلوكِ وَأن تُرى**لَكَ الهَبَواتُ السودُ وَالعَسكَرُ المَجرُ
وَتَركُكَ في الدُنيا دَوِيّاً كَأَنَّما ** تَداوَلُ سَمعَ المَرءِ أَنمُلُهُ العَشرُ
ومعنى البيت الأخير أعلاه يحتمل الضجيج المعنوي، وهو أبلغ، لكن ما سبقه يفيد تأكيد ضجيج السيف والفتك وتضريب أعناق الملوك والعسكر المجر لا غير.
مقابل ذلك، لم ينصرف أمير الشعراء كليّةً إلى الضجيج المادّي حرفيّاً فاحتملت أبياته التالية بوضوح ما هو معنوي من صور المجد الخالد، حتى إذا كان متضمّناً فيما هو ماديّ من الآثار الشامخة؛ ولا يخفى على كل حال استلهام شوقي صورةَ المتنبي الشعرية البديعة في البيت الأخير من المقتطف التالي:
وَلَيسَ الخُلدُ مَرتَبَةً تَلَقّى ** وَتُؤخَذُ مِن شِفاهِ الجاهِلينا
وَلَكِن مُنتَهى هِمَمٍ كِبارٍ ** إِذا ذَهَبَت مَصادِرُها بَقينا
وَسِرُّ العَبقَرِيَّةِ حينَ يَسري ** فَيَنتَظِمُ الصَنائِعَ وَالفُنونا
وَآثارُ الرِجالِ إِذا تَناهَت ** إِلى التاريخِ خَيرُ الحاكِمينا
وَأَخذُكَ مِن فَمِ الدُنيا ثَناءً ** وَتَركُكَ في مَسامِعِها طَنينا
امتلك المتنبي كما هو معلوم من تاريخ الشعر العربي بالضرورة موهبة عظيمة في الأدب، لكن شغفه كان بعيداً تماماً عن تلك الناحية:
وَفُؤادي مِنَ المُلوكِ وَإِن كا ** نَ لِساني يُرى مِنَ الشُعَراءِ
وهو في البيت أعلاه يقرّر جازماً أن فؤاده من أفئدة الملوك، في حين أن انتماءه إلى الشعراء لا يتجاوز اللسان؛ والفعل المبني للمجهول “يُرى” يضفي على ذلك الانتماء الأدبي أبعاداً مضاعفة من التشكيك وقلّة الاكتراث.
هذا، وقد ذكر العقّاد في كتابه “مطالعات في الكتب والحياة” – نسخة على الإنترنت – ضمن مقال بعنوان “ولع المتنبي بالتصغير” ما يلي عن المفارقة الصارخة بين قدرات المتنبي وتطلّعاته، وهي مفارقة قيل فيها الكثير: “والحقيقة أن المتنبي جهل نفسه ولم يكن صادق النظر في أمله، فأضلّه الأمل الكاذب عن كنه قدرته وطبيعة عظمته؛ وأحس من نفسه السمو والنبالة، فظن أن السمو لا يكون إلا بين المواكب والمقانب، وأن النبالة لا تصح إلا لذي تاج وصولجان وعرش وإيوان، وسيف يضرب الأعناق ورمح يرتوي بالدماء، وقد كان الحال كذلك في عصره، وكان هذا مقياس المجد الذي لا مقياس غيره، فطلب الرجل الملك جادّاً في طلبه، وجعل الشعر آلته ريثما يبلغه، فبقيت الآلة الموقوتة وذهبت الغاية المطلوبة! وظل يسعى طول حياته إلى شيء، وأراد الله به شيئاً آخر، فأحسن الله إليه من حيث أراد هو أن يسيء إلى نفسه، وفرح محبوه بعد موته من حيث شمت به الأعداء في حياته”.
وبالحديث عن مقياس المجد الذي أشار إليه العقاد، فإن ذلك المقياس لا يميل إلى ترجيح الملك/السلطة على الأدب/الفكر في عصر المتنبي وحده وإنما في كل زمان؛ وبتجاوز الجدال حول أيهما أحق بانتزاع ذروة المجد بصفة عامة/مطلقة في كل العصور (السلطة أم المال أم الأدب/الفكر أم غيرها)، فإن الأحق نظرياً بانتزاع المجد في نفس المتنبي هو الأدب كما يعلم كل عاشقي/متابعي شاعرنا العظيم؛ لكن ما حدث واقعياً أن الأدب لم ينتزع المجد في نفس شاعرنا، ولا حتّى تنازع نفسَه مع الملك، وإنما استبدّ الأخير بلبّ شاعرنا ونفسه كلَّ الاستبداد بحيث طرح الشعرَ وضيعاً في حساب شاعرنا الذاتي قبل أن يكون كذلك في سوق الكساد؛ ولعل شاعرنا بات يرى الشعر وضيعاً في نظره عندما فشل تماماً في أن يوصله إلى بغيته الأسمى المتجسّدة في الملك/الولاية/السلطة لا غير.
وإذا كانت المعضلة/المفارقة الشائعة في الحياة لدى الناس عموماً تتمثّل في الموهبة/الشغف مقابل الفرص المتاحة واقعياً للعمل/الوظيفة، فإن معضلة/مفارقة المتنبي كانت فريدة كشأن شؤونه الشخصية/النفسية كافةً، فقد شكّل أحدُ الطرفين في المفارقة الشائعة لدى الناس طرفيَ مفارقته المتصارعين معاً: الشغف إزاء/ضد الموهبة. وإذا كان شائعاً أن يستغرق اكتشاف الموهبة والشغف طويلاً لدى الناس، وقد ينقضي العمر بكثيرين دون أن يقعوا على موهبتهم الأصيلة وشغفهم الحقيقي، فإن المتنبي كان فريداً من حيث اكتشافه الباكر جدّاً كلا موهبته وشغفه، وفريداً كذلك في العمل بجدّ على موهبته ومن أجل شغفه منذ بواكير صباه، وفريداً – مجدداً – من حيث افتعاله المعركة بين الموهبة والشغف وحكمه القاطع لصالح شغفه ضد موهبته من حيث الميل النفسي والفائدة المرتجاة. أمّا ذروة الفرادة لدى شاعرنا ومسلسل مفارقاته فقد تجلّت في الانتصار المشهود لموهبته الأصيلة على شغفه الجامح بالضربة الفنية القاضية.
للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: [email protected]