ناجي ظاهر: نصف الطريق
ناجي ظاهر
سار الصديقان الجديدان جدًا، الختيارة والختيار، بضع خطوات في قمّة الجبل، وكان مِن المُتّفق عليه فيما بينهما أن يفترقا، قُرب محطتها باتجاه بيتها في السفح الأول، في حين ينطلق هو باتجاه محطته في الاتجاه المحاذي، للانطلاق نحو بيته الوحيد في الجانب المقابل من الجبل ذاته. قبل أن يفترقا خطر في باله أنهما.. هُما الاثنان.. كما جرى الحديث بينهما على حافة مرض لا دواء له إلا المشي والانطلاق في الدروب الطويلة المُمتدّة. أرسل نظرة مُتخابثة نحو مرافقته وقال لها ” إنني سأنزل هذا الجبل العالي سيرًا على القدمين. صحتي تحتاج المشي بالضبط كما تحتاج شرب الماء الزلال والنوم الحلال”. هنا حدث ما توقّعه منها، فأردفت ما قاله بكلمات كانت غامضة مبهمة نوعًا ما، وأكثر من ذلك نقلت له ما أراد أن يستمع إليه. وهو أنها سترافقه. همس لنفسه قائلًا:” فعط الفخّ”. وهكذا حظي بردّها المتوقع المنشود. سأرافقك. ردت بنوع من الخفر وتابعت أنا أيضًا أحتاج إلى مثل ما تحتاج إليه.
انطلق الاثنان نازلين الجبل الاشمّ، هو إلى جانبها وهي إلى جانبه وحرص على الا يسبق أحدهما الآخر. شكا لها من صعوبة أن تعيش وحيدًا، فبكت له قائلة إن أصعب ما في الكون أن تعيش وحيدًا. قال لها إن مشكلة الطعام والشراب تأتي أولًا في صلب معاناة الوحدة بعد امتلاء، فأكملت وغسل الملابس يأتي في مكانة لا تقل أهمية. هكذا ابتدأ التوافق المُضمر فيما بينهما، هي المرأة الملآى بقايا انوثة رغم الشيخوخة المُداهمة وهو الشيخ المليء شبابًا رغم افتضاض العالم كلّه عنه بما فيه الابناء.. ثلاث اناث وذكر واحد. ” كلهم متزوجون”، قال فأرسلت ابتسامة مَن اكتشف مَن يُشبهه على الأقل. وقالت ” بي مثل ما بك يا شيخ الشباب”.
هذا التوافق فيما بينهما شدّ من عزيمتيهما، فانطلقا يغذان الخطى نازلين متنقلين من رباع إلى رباع. وكان كلّ منهما يستذكر أن له في تلك المنحدرات المتتالية ذكريات، فما يكاد هو يقول هُنا كانت لي ذكريات مع عازفة عود سمينة.. كان ذلك حانوتها، حتى تشرع هي في سرد ما ادخرته ذاكرتها عن تلك العازفة، فذكرت أن رجالات حيها كانوا يدعون تلك المرأة عازفة العود لتحيي الاعراس والافراح والليالي الملاح. تلك المرأة تمتّ إلى أبناء عائلتي بشيء من القرابة. قالت فردّ. لقد نادتني عندما كنت طفلًا صغيرًا ارتجف تحت المطر لتدفئني في دكانها.
تابع الاثنان انطلاقهما. حكاية تُفضي إلى أخرى. ويدًا تقترب من يد. وكانا كلّما توقفا قُبالة مطبخ أو مغسلة روى أحدهما للآخر حكايته معها. ليكمل الآخر تلك الرواية بحديث طليّ يعيد الماضي وكأنما هو لمّا يمض. وما زال ماثلًا… ويغذي الحاضر بنسغ الحياة باستمرارها وكينونتها.. وحتى بوجودهما هما الشيخان الشاهدان الوحيدان في ذلك الدرب على أن ما كان لم يكن وهمًا وخيالًا وإنما كان كينونة ووجودًا.
عندما تعب الاثنان توقّف كلّ منهما قُبالة الآخر، مُرسلًا نظرة استفسارية.. سألتها عيناه ” هل أنت متأكدة من أننا كنّا هنا؟”، فردّت عيناها” ألم تُجب الذكريات على ما فاضت به ذاكرة كلّ منّا؟”، أطربه أنها أجابت على السؤال بسؤال مُفحم، وتابع الطريق.. كان يودّ ألا ينتهي ذلك الطريق، وكان السؤال المُلحّ رغم كلّ ما ضمّته تلك المسيرة مِن تفاهم واضح وجليّ. ترى هل يوجد بها مثل ما بي.. أم هي ضريبة كلامية تدفعها لي لقاء اقتراحي ذاك في أعلى الجبل؟”. وبدا أن المسير الطويل أخذ مأخذه من كلّ منهما.. هما الاثنان، فظهر الاعياء على قدمي المرأة المُسنة المرافقة، وما إن ترنّحت في حالة من التعب والارهاق هتفت ” يمّا.. أشعر أنني سأسقط”، عندها مدّ يده مستعينًا بما تبقّى بها من قوة شباب وعنفوان وأمسك بيدها هاتفًا بها” تروّي.. لا تصرخي.. أنت معي لا يمكن أن تسقطي”، مُساعدته لها مكنتها مِن العودة إلى انتصابها السابق الأول. وأدنت وجهها مِن وجهه كأنما هي تُريد أن تشكره وتُقدِّم له أسمى آيات الشكر والعرفان لمساندتها تلك.. هكذا انطلق الساعيان في طريقهما الوعر حينًا السهل آخر. انطلقا غير عابئين بما اعتور طريقهما مِن عثرات وعقبات فقد كان كلّ منهما يسند الآخر حين يتهاوى من طول الطريق وشدة الاعياء. وقد حصل معه بعد أن سرت في جسدها دماء القوة لمساندته إياه، في أحد مقاطع المنحدر الصعب، ما سبق وأن حصل معها، كان ذلك عندما ترنّح متهاويًا وتبدّت له نهايته الوشيكة في أسفل الجبل. فما أن تداعى بجسده الناحل حتى شعر بيد الهية وقويّة تمتد إلى يده بقوة عملاقية.. وتنتشله في اللحظة الأخيرة.. لحظة ما قبل النهاية. أرسل نظره إلى تلك اليد يودّ أن يتبيّن صاحبها ليشكره ويُقدّم له آيات عِرفانه وتشكراته الخالص. ليفاجأ بانها هي مُرافقته المُسنة مَن مدّت إليه يدها وسحبته من متاهته .. نهايته المحتّمة.
واصل الاثنان انطلاقهما هذه المرة بخُطى مَن تأكد أنه لم يعد وحيدًا في انحداره الجبلي، وكان كل منهما يُرسل ابتسامة إلى الفضاء المجهول وتعلو وجهه علامة سؤال ” ترى هل انتهى زمن الوحدة وما تخلله من مشاكل قلة الطعام وغياب مَن يغسل الثياب؟”، وبقي هذا السؤال يراود كلًا منهما إلى أن خطرت لها هي.. وليس هو هذه المرة.. أن تلعب لعبتها الخاصة وأن تضرب ضربتها الحاسمة. همست في أذنه سائلة إياه:” ها نحن وصلنا إلى منتهى الجبل وأسفله.. ترى إلى أين ستتجه.. “، فردّ عليها قائلًا بنوع من التخابث سأواصل طريقي حتى نهايتها”، هنا وجّهت إليه ضربتها القاضية الأخيرة.. فإما تصيب وإما تخيب. اصطنعت هيئة مَن لا يهمه ماذا سيحدث وفي خاطرها أن تجري له الامتحان الأخير، فإما يُكرم وإما يُهان.. وهذا ما سينطبق عليها بالطبع قبل انطباقه عليه. قالت أنا سأتوقف هنا وسوف أنتظر الحافلة الطالعة إلى بيتي هناك في الناحية الجبلية المحاذية لناحيتك”، انتابته حالة من البرود فقد كان يتوقّع بعد كلّ ما حصل أن تقول له سأرافقك. انطوى على أحزانه القديمة. ودعها وواصل طريقه وهو ينظر إلى الامام.. لقد كان منطلقًا انطلاقة من حدّد هدفه ورآه بأم عينه.. وقد كان يراها أشبه ما تكون بوصلة توجّهه إلى ناحيته الصحيحة المنشودة.. أصابته حالة من الجنون المفاجئ فأخذ يجري شاقًا عُباب الدرب الطويل.. وكان كلّما واصل الجري أرسل ابتسامة غطّت الجبل من اسفله الى أعلاه.. فقد كان يشعر بقدمين قويتين تُشبهان قدميه تجريان.. وتكادان تطيران.. في الطريق ذاته..
ندرك جيدا أنه لا يستطيع الجميع دفع ثمن تصفح الصحف في الوقت الحالي، ولهذا قررنا إبقاء صحيفتنا الإلكترونية “راي اليوم” مفتوحة للجميع؛ وللاستمرار في القراءة مجانا نتمنى عليكم دعمنا ماليا للاستمرار والمحافظة على استقلاليتنا، وشكرا للجميع
للدعم: