د. محمد عبدالرحمن عريف: بلعيد عبد السلام: عندما حضر بين “قناعات وصراعات”
د. محمد عبدالرحمن عريف
هو بلعيد عبد السلام (20 يوليو 1928 بعين الكبيرة – 27 يونيو 2020 جسر قسنطينة)، هو رئيس الحكومة الجزائرية الذي اختاره علي كافي عَقِبَ استقالة حكومة سيد أحمد غزالي. مواليد 20 يوليو 1928 بعين الكبيرة (ولاية سطيف) من المناضلين الأوائل في الحركة الوطنية، كان من الأعضاء المؤسسين لرابطة الطلاب المسلمين في شمال أفريقيا (1951-1953) وكذا عضو مؤسس لاتحاد الطلاب المسلمين الجزائريين سنة 1953. التحق بلعيد بصفوف ثورة التحرير الجزائرية سنة 1955 حيث أسس في جويلية 1955 مع مجموعة من الطلبة الاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين ولم يلبث أن شارك في الإعلان عن إضراب الطلبة الجزائريين يوم 19 مايو 1956. في سنة 1958، كلف بعدة مهام ضمن هياكل الحكومة المؤقتة، أهمها مساعد لوزير الشؤون الاجتماعية والثقافية، ليعيّن سنة 1961 في ديوان الحكومة المؤقتة إلى غاية الاستقلال. وبعد وقف إطلاق النار مباشرة كُلّف بتسيير الشؤون الاقتصادية في الهيئة التنفيذية المؤقتة. بعد الاستقلال، تقلد بلعيد العديد من المناصب السامية منها رئيسا للوفد الجزائري المفاوض مع الطرف الفرنسي بخصوص ملف الطاقة، مديرًا عامًا لشركة سوناطراك (1964-1965)، وزيرًا للصناعة والطاقة (1965-1977)، وزيرًا للصناعات الخفيفة (1977-1979) ورئيسًا للحكومة (1992-1993).
كذلك هي بدايات حضرت مع رحيله.. فلا ينبغي أن تمر وفاة المناضل السياسي المخضرم بلعيد عبد السلام دون أن تثير حياته نقاشًا فكريًا بالنظر إلى ثرائها وتنوعها والعبر والدروس التي يمكن أن تستقى منها ومن السياقات التاريخية المختلفة التي عاشها الرجل منذ أول يوم التحق فيه بالحركة الوطنية إلى أيامه الأخيرة حين أصدر مذكراته المثيرة للجدل. لقد كان بلعيد عبد السلام فريدًا متميزًا في حياته النضالية والسياسية وظل كذلك بالرغم من أنه لم يتح له يوما هامش المناورة الذي يتلاءم مع طبيعة شخصيته ليجسد رؤاه التي كان يجهر بها ليجعل من الجميع شهودا عليها، كان مثالًا للسياسي الموظف غير أن توظيفه لم يكن دون مخاطر على صاحب العمل. فالرجل ولد ونشأ في بيئة متمردة على الاستعمار الفرنسي ومنحازة كلية إلى التيار الوطني الاستقلالي، ولد في عين الكبيرة، إحدى بلدات سطيف وكانت واحدة من المعاقل الكبرى لحزب الشعب الجزائري – حركة انتصار الحريات الديمقراطية الذي تعلم منه أن السياسة قناعات والقناعات مثل السجون وأفكار ننخرط فيها وندافع عنها ونغادر الطاولة عندما لا تنسجم السياسات المتبعة مع تلك القناعات.
التحق بلعيد عبد السلام بالثورة التحريرية في عام 1955، لينضم إلى الحركة الاجتماعية والسياسية التي بدأ يؤسس لها القائد رمضان عبان فتجند هو وفريق من الطلبة لتشكيل نواة أولى لحركة طلابية مهمتها نشر الوعي والتعبئة ودفع النخبة المثقفة للانخراط في الثورة إلى جانب الفلاحين في الأرياف والعمال في المدن. لم يعرف لعبد السلام أي مشاركة في جيش التحرير الوطني فقد ظل مناضلًا سياسيًا مدنيًا بعدما كان يعد نفسه ليصبح طبيبًا لولا حركة 19 ماي 1956. يقال إنه اشتغل مع مولود معمري على إنجاز رسالة لجبهة التحرير الوطني كانت موجهة إلى الأمم المتحدة غير أن أغلب نشاطه كان في مدينة الجزائر قبل أن يلتحق بتونس ويشتغل مساعدًا لوزير الشؤون الاجتماعية عبد الحميد مهري ضمن الحكومة المؤقتة وبعدها مديرًا لديوان رئيسها بن يوسف بن خده وبعد وقف إطلاق النار صار عضوًا في الهيئة التنفيذية بروشي نوار تحت قيادة عبد الرحمان فارس. التزم عبد السلام بمهامه بتفان وانضباط الثوار وبالانضباط ذاته تولى إدارة شركة سوناطراك قبل أن يتولى وزارة الصناعة والطاقة من 1965 إلى 1977 وبعدها وزارة الصناعات الخفيفة إلى غاية 1979. وبهذا ارتبطت به السياسة الصناعية كلها في عهد الرئيس بومدين.
لم يتوان بلعيد عبد السلام عن الرد على من كان يستصغر جهده لاسيما ما تردد من أنه لم يقم إلا باتباع نموذج نمو اقتصادي صنعه الاقتصادي الفرنسي دو برنيس تحت عنوان الصناعة المصنعة، ففي إحدى كتاباته أوضح أن “منابع سياسة التنمية المتبعة في الجزائر بعد الاستقلال تقع في المبادئ والتوجيهات والأهداف المحددة للثورة الجزائرية من قبل برنامج طرابلس الذي تبناه المجلس الوطني للثورة الجزائرية في ماي 1962 وأكده مؤتمر حزب جبهة التحرير الوطني عام 1964 ووسعه أثراه الميثاق الوطني لعام 1976 فالتصنيع المتبع في الجزائر لم يكن نابعا إلا من هيئات الثورة الجزائرية فتحديد اختياراته كما تصور غايته لم تكن من عمل جهات خارجية، فجيرارد ديستان دو برنيس لم يقم بأي دور في تحديد هذا التصور”. واتهم بلعيد عبد السلام مروجي هذه الفكرة، وهم فرنسيون في الغالب، بالحنين إلى الماضي الاستعماري، فهم في نظر قائد التصنيع في عهد بومدين، لا يعتقدون أن الجزائريين بإمكانهم تصور سياسة منسجمة للتنمية خاصة في مجال التصنيع وتأسف أن كثيرًا من الصحافيين الجزائريين وقعوا في هذه المغالطة. وبالرغم من مرور عقود على تلك السياسات والردة عنها التي قامت في ثمانينات القرن الماضي، في عهد الرئيس الشاذلي بن جديد، والاتجاه الغالب اليوم الذي لا يتلاءم معها ويعدها من الأثاث القديم، إلا أن الرجل بقي وفيا لها في تصورها وتنفيذها فهو الذي حرر أغلب نصوصها التوجيهية والقانونية وزكاها كلها قبل أن ينفذها، واعترف عبد السلام أن بعضًا من جوانبها لم تعد صالحة اليوم إلا أنها تعكس انشغالات لا تزال موضوع الساعة ويمكن أن نجد فيها وصفا لمصدر أو تفسيرا للأشياء التي تحدث الآن.
عكس الكثير من السياسيين المحيطين ببومدين من أمثال قايد احمد وعبد العزيز بوتفليقة واحمد مدغري وغيرهم فإن انخراطه في المسار السياسي الذي أعقب انقلاب 19 جوان 1965 لم يكن من منطلق الانتماء إلى جماعة ضد جماعة أخرى كما كان ذلك ديدن العسكريين خاصة، فقد برر انخراطه في المسار البومديني بالرغم من طابعه الانقلابي غير الديمقراطي بأنه كان دفاعًا عن قناعاته المرتبطة بما ظل يعتبره إقرارا لمواثيق الثورة التحريرية التي تبنت برنامجًا اشتراكيًا جزائريًا لا صلة له بالمادية التاريخية لماركس وأنجلز، كما قال، ولا بالشيوعية اللينينية ولا تابعًا للكولونيالية الفرنسية كما كان يروج له حينها.
تأسف عبد السلام من أن الذين ورثوا الحكم عن بومدين حادوا عن نهجه وقد كانوا من قبل قد أقسموا أن يظلوا أوفياء له منهم الرئيس الشاذلي بن جديد الذي شرع عام 1982 في سياسة تفكيك منظمة للنسيج الصناعي الذي بناه بلعيد عبد السلام، واستقدم لهذه المهمة الوزير الأول عبد الحميد ابراهيمي المعروف بـ la science عام 1983، وقد كانت العملية على خطوات أولاها إعادة هيكلة المؤسسات الاقتصادية قبل أن تأتي مرحلة استقلالية المؤسسات والردة عن نمط التسيير الاشتراكي للمؤسسات التي مهدت لحركية الخوصصة التي لا تزال قائمة إلى اليوم ضمن المشروع الجديد المسمى اقتصاد السوق الذي أتى ضمن قاعدة الإصلاحات الاقتصادية لمولود حمروش. ولأن القناعات سجون لأصحابها فقد وجد بلعيد عبد السلام نفسه وحيدا في الساحة ليدافع عن الخيارات الاقتصادية المنتهجة في عهد بومدين بعدما سار الجميع مع موضة العصر التي أيدها انهيار المعسكر الاشتراكي مع نهاية الثمانينات، وتآكل الإرث البومديني على جميع الأصعدة. انتهز فرصة الانفتاح الديمقراطي لينهال على سياسة الشاذلي بن جديد الاقتصادية ويصدر كتابًا تحت عنوان “الغاز الجزائري” وتصدر عنه مقابلة مطولة مع الباحثين السوسيولوجيين محفوظ بنون وعلي الكنز في كتاب من جزئين تحت عنوان “الصدفة والتاريخ، حوار مع بلعيد عبد السلام” وهما الكتابان اللذان أثارًا جدلًا دون أن يثنيا السلطة عن نهج الردة عن الخيارات الاقتصادية السابقة.
لم يكن الفصل الآخر الذي أعقب توقيف المسار الانتخابي واغتيال الرئيس محمد بوضياف أقل جدلًا وإثارة من الفصول السابقة فقد وقع اختيار جماعة العسكر الذي أمسكوا بمقاليد القرار على بلعيد عبد السلام ليخلف سيد احمد غزالي على رأس الحكومة وقد يكون اختيار عبد السلام من وحي غزالي نفسه فهو تلميذه وخلفه على رأس سوناطراك إلا أن الخلفية العميقة لتعيين عبد السلام كانت التخلص تمامًا من مخلفات عهد الشاذلي بن جديد فالجماعة تعرف أنهما على طرفي نقيض. غير أن الرياح جرت بما لم تشته سفن جماعة العسكر آنذاك منهم خالد نزار ومحمد تواتي ومحمد مدين والعربي بلخير وغيرهم، فقد شرع الوافد الجديد على قصر الدكتور سعدان في ما أسماه اقتصاد الحرب بعدما رفض صندوق النقد الدولي التنازل عن سياسة إعادة جدولة ديون الجزائر وتطبيق برنامج التعديل الهيكلي في سبيل ذلك وشن حربًا سياسية على من أسماهم العلمانيين الاندماجيين الذين أرادوا الاستيلاء على السلطة باغتنام الفراغ المؤسساتي آنذاك كما أقام حربًا أخرى على ما أسماه مصالح اقتصادية يرعاها الجنرالات الذين ظل يقول إنهم عينوه وهم من بيدهم أمر إنهاء مهامه في رد على انتقادات ضده صدرت عن رئيس المجلس الأعلى للدولة علي كافي. بدأ حربًا كان يعلم مسبقًا أنها خاسرة غير أنه أصر على مواصلتها انسجامًا مع قناعاته وأفكاره التي لم يستطع رغم خطبه التي كانت تدوم لساعات أن يبلغها للشعب الذي كان يعيش بداية عشرية دموية امتزج فيها الفقر بالتهديد بالموت. انتهى به الأمر إلى الخروج من الحكومة في 19 أوت 1993 وهو اليوم الذي صادف اغتيال رئيس الحكومة الأسبق قاصدي مرباح.
لقد عاد بلعيد مجددًا بمناسبة الانتخابات الرئاسية لعام 1999 دون أن يفلح في الترشح وقد نصح بوتفليقة بالانسحاب من السباق وعدم تكرار تجربته مع الجنرالات لكن التاريخ أخذ مسارا آخر جعل الرجل يركن للتقاعد السياسي ولكتابة مذكراته التي، إذا أضيفت إلى مذكرات الشاذلي بن جديد واحمد طالب الإبراهيمي وغيرهما يمكن أن تشكل مراجع لدراسة تاريخ الجزائر المعاصر.
بلعيد عبد السلام ينشر مذكراته: تعييني كان في فيلا..!
يكشف السيد بلعيد عبد السلام أنه “يتحدى كل من يدعي انه فشل في أداء واجبه عندما كان على رأس الحكومة ومن بين هؤلاء الجنرال تواتي الذي كان ضد موقفه الخاص بالرفض التام لإعادة جدولة الديون الخارجية للجزائر متهما إياه بالعقل المدبر وراء إسقاط حكومته التي وضعت برنامجا خاص لمحاربة الرشوة”. ويشير بلعيد عبد السلام أن الجنرال تواتي قد لعب دورًا فعال بعد توقيف المسار الانتخابي سنة 1991.وكشف السياسي ذاته عن خلفيات تعيينه على رأس الحكومة مباشرة بعد اغتيال الرئيس محمد بوضياف عندما استدعي من طرف الجنرال خالد نزار ورئيس المجلس الأعلى للدولة بإحدى الفيلات التابعة لوزارة الدفاع الوطني يكشف رئيس الحكومة السابق السيد بلعيد عبد السلام أن قرار تعيينه على رأس الحكومة مباشرة بعد اغتيال الرئيس السابق محمد بوضياف بعنابة سنة 1992 تم في إحدى الفيلات التابعة لوزارة الدفاع الوطني عندما استدعي من طرف الجنرال خالد نزار ورئيس المجلس الإسلامي الأعلى للدولة حيث يقول بلعيد عبد السلام في كتابه الذي جاء في 322 صفحة قائلا “يوم السبت يوم 4 جويلية 1992 نزلت برقية من وكالة تعلن أن المجلس الأعلى للدولة سيقوم بمراجعات سياسية فيما يخص الوضعية المتعلقة بأحوال البلاد وفي منتصف نفس اليوم قام أمين عام الرئاسة بإبلاغي أن الرئيس علي كافي والجنرال نزار يودان مقابلتي في إطار هذه المراجعة وقد تم تحديد موعد في نفس اليوم في فيلا تابعة لوزارة الدفاع الوطني وأشرت للأمين العام للرئاسة ان أفكاري حول المشاكل التي تعيشها البلاد وحلولها كانت معروفة ولم يكن لدي أي شيء جديد يمكن استشارتي فيه وخلال هذا اللقاء قام الجنرال خالد نزار بدورة حول الحالة المتأزمة التي تعيشها البلاد سيما ما تعلق بالأوضاع الأمنية للبلاد فاقترحت وضع جهاز قضائي خاص بالإضافة الى التسريع في الأوامر القضائية من أجل إعطاء دفع أكبر لقوات حفظ الأمن.
تحدث رئيس الحكومة السابق في كتابه مطولًا عن ما يسمى بفشل حكومتي حسب أقوال الجنرال تواتي وتساءل هذا السياسي “عن المعنى الحقيق لكلمة فشل وبالتالي الفشل مقارنة بماذا؟” ويضيف الكاتب انه بالنسبة له لا يمكن الحكم بنجاح او فشل حكومته الا من خلال مراجع ثلاثة هي أرائي التي عبرت عنها وطورتها بحضور الرئيس علي كافي والجنرال نزار قبل أن يخبرني هؤلاء بقرارهم تعييني رئيسا للحكومة, قانون العمل الذي أقنعت المجلس الأعلى للدولة للمصادقة عليه ويكشف رئيس الحكومة السابق عن وجود أنظمة خفية كانت تتمتع بسلطة اتخاذ القرارات المصيرية حيث قال بلعيد عبد السلام ”أنه لم يقم في أي وقت من الأوقات بإخفاء فحوى سياسته ولا الطريقة المتبعة ظرفيًا عن المجلس الأعلى للدولة ولا عن الأنظمة التي كانت صاحبة السلطة الحقيقية في تحمل مسؤوليات تسيير شؤون البلاد في تلك الفترة ”المرجع الثالث بالنسبة لبلعيد عبد السلام هو قانون المالية التكميلي لسنة 1992 وبرنامج الاستثمار لسنة 1993 وأخيرا مخطط التنمية على المدى المتوسط الذي تمت المصادقة عليه من طرف مجلس الحكومة وتم نشره في الجريدة الرسمية.
لم يخف بلعيد عبد السلام سخطه على تصريحات الجنرال تواتي في حوارته الصحفية التي استغلها حسبه لنشر أكاذيب مفادها أن حكومتي فشلت في أداء مهامها وهي الحكومة التي بدأت تظهر نجاحًا كبيرًا الا أنه سرعان ما تم تتوقيفها بطريقة مفاجئة. وقال بلعيد عبد السلام “أتحدى كل من يدعي أنني فشلت في أداء مهامي أو أنني خالفت توجيهات سياسية أو اقتصادية معينة أمليت لي” وشدد بلعيد عبد السلام على التأكيد أنه قبل إنهاء مهامه واجه محاولات عديدة كانت تهدف إلى دفعي إلى تبني سياسة مخالفة غير التي صادقت عليها حكومتي كانت محاولات شديدة كي نعيد جدولة الديون الخارجية للجزائر وهو ما يعني إمضاء بلادنا على تطبيق أوامر صندوق النقد الدولي. ويقول رئيس الحكومة السابق الظاهر أن الجنرال تواتي وكثير من المسؤولين ينسون أنه العهد الذي كان بعد توقيف المسار الانتخابي سنة 1991 كان تأسيس دولة ذات مصداقية وذات سمعة عالمية” وهوة ما يتضمن محاربة الآفات الاجتماعية منها الرشوة وكانت حكومتي هي من وضعت برنامجا واضحا لقطع الطريق أمام هذه الممارسات المافياوية.
الإحراج والإزعاج في مذكرات بلعيد عبد السلام
“أدعو الله أن يلهم السيد عبد السلام الحكمة”.. هكذا كتب وزير الدفاع الأسبق، الجنرال المتقاعد خالد نزار، ردًا على مذكرات رئيس الحكومة الأسبق، بلعيد عبد السلام، الذي حرك الجنرال محمد تواتي وجعله يقول بأن “بلعيد يحمّل الآخرين أسباب أدائه الرديء”، وأنه كان يتمنى إستمرار المجلس الأعلى للدولة “حتى يبقى في الحكم”، فلماذا هذه المذكرات الآن ولماذا هذه الردود على وقائع حدثت منذ أكثر من 15 سنة؟ تعتقد أوساط مراقبة، أن “عودة” خالد نزار ومحمد تواتي إلى الواجهة الإعلامية والسياسية، جاءت لتعطي الإنطباع بأن بلعيد عبد السلام يقول كلام “كبير وخطير” مستمد من فترة توليه رئاسة الحكومة بداية التسعينيات، وتحديدا في عهد المجلس الأعلى للدولة الذي سدّ الفراغ المؤسساتي الذي خلفه رحيل الرئيس الشاذلي بن جديد، وإذا كان واضحًا، بأن “ردود” الجنرال نزار تأتي في سياق “دعم” ردود الجنرال تواتي و”التضامن” معه، فإن السؤال الذي يطرحه متابعون، هل تحرك الجنرالان بطريقة إنفرادية ومعزولة وشخصية، أم تم تتويجا لتنسيق ثنائي لمواجهة “خصم مشترك”؟. خالد نزار الذي دخل، قبل سنوات، في معركة قضائية مع علي كافي بسبب مذكراته، دعا في “تعقيبه”، عبد السلام بلعيد، إلى التوقف عن “إطلاق تصريحات مضرة بصورة الجزائر في وسائل الإعلام الدولية”، وهو ما يقرأ أن مذكرات رئيس الحكومة الأسبق “أحرجت وأزعجت” بعض الدوائر في الداخل، وقد قال وزير الدفاع الأسبق، بأنه “هو من طرح فكرة رحيل عبد السلام وأن المجلس الأعلى للدولة، بقيادة علي كافي آنذاك، وافق عليها بالإجماع”، نافيًا أن يكون طلاق الفريق الجماعي الذي خلف الشاذلي بن جديد لقيادة البلاد، مع بلعيد عبد السلام، “تم بناء على حسابات سياسية أو دسائس أو مناورات”.
بالعودة إلى ما كتبه نزار في “توضيحاته” فإن رحيل أو ترحيل عبد السلام تمت بموافقة ومباركة المجلس الأعلى للدولة، وهو ما “يورط” كل الأعضاء، فهل سيتكلم علي كافي ورضا مالك وعلي هارون في سياق وضع النقاط على الحروف؟، علما أن نزار قال: “لم ألتق ثنائيًا بالسيد عبد السلام إلا ثلاث مرات، إحداها جرت في دار العافية بدون حضور رئيس المجلس الأعلى للدولة، حيث كنت مكلفًا من المجلس بأن أقترح عليه منصب رئيس الحكومة”، مضيفًا “حول هذا الموضوع، وجهت له ملاحظة مفادها أن العالم تغير، وفهمت أنه وافق على إقتراح تعيينه رئيسا للحكومة، عندما إلتزم مستعملا هذه العبارات: في كل الأحوال سأتكيف مع الوضع بعدها إتخذ المجلس قرار توليته منصب رئيس الحكومة”.
ردود الجنرالين نزار وتواتي، إلتقت في أن عبد السلام “أعرب عن أمله في أن يستمر أعضاء المجلس في مناصبهم إلى ما بعد ما تبقى من عهدة الشاذلي بن جديد، وإقترح إقرار حالة استثنائية تدوم خمس سنوات”، وقال نزار: “السيد بلعيد يعتقد أن خياراته تندرج في نفس خط الحركة الوطنية وحزب الشعب وحركة انتصار الحريات الديمقراطية والأفلان، وبالتالي فإن الذين لا يوافقونها يصبحون غير وطنيين حتى لا نقول خونة لمبادئ الثورة”، مضيفا “إن الادعاء بأن اللجوء إلى صندوق النقد الدولي يمس بسمعة الدولة، يترك الإنطباع بأن رئيس الحكومة السابق كان المدافع الوحيد عن الإعتزاز بالوطنية، بما أن أشخاصا مثلنا الذين إختاروا إعادة جدولة الديون يقودون البلاد عن سبق إصرار إلى طريق اللاكرامة”. ردة فعل محمد تواتي وبعدها خرجة خالد نزار، تؤكد برأي مراقبين بأن الجنرالين تابعا بإهتمام ما كتبه عبد السلام بلعيد في مذكراته عن المرحلة التي كان فيها رئيسًا للجهاز التنفيذي، كـ“شاهد عن العصر”، وتكشف “دفوعات وهجومات” نزار وتواتي، بأن مذكرات بلعيد حطمت “واجب التحفظ” وتجاوزت “الخطوط الحمراء” خاصة فيما يتعلق بالنسبة للملفات السياسية والإقتصادية، وهو ما جعل نزار يقحم مصطلحًا “الوطنيين والخونة” لدى حديثه مثلا عن إعادة الجدولة والأفامي!.
=لم يعد خافيًا -حسب مراقبين- بأن الفترة التي تولى فيها عبد السلام رئاسة الحكومة (1992-1993)، تحولت حاليًا إلى ما يشبه “ميدان حرب” بين بلعيد ونزار وتواتي، بسبب المذكرات، خاصة بشأن ظروف وملابسات عمل وإقالة الحكومة أنذاك، حيث يتهم بلعيد اللواء محمد تواتي، مستشار وزير الدفاع في التسعينات، بعرقلة نشاط حكومته والتخطيط للإطاحة بها، وهو ما وصفه المدعو “المخ” بأنها من “الإفتراءات والإدعاءات والمهاترات والإتهامات، جاءت بباعث تجاوز الشعور بالإحباط”.
بلعيد الذي قال أنه قطع الغصن الذي كان يجلس عليه رفقة حكومته، وإختار لمذكراته عنوان: كل الحقيقة حول 13 شهرًا قضيتها علي رأس الحكومة، نجح برأي أوساط مراقبة -حتى وإن لم يكن مقصودًا أو مخططًا له- في تحريك الساحة الوطنية من خلال العودة بالرأي العام إلى الوراء، وتحديدًا إلى أصعب وأحرج فترة عرفتها البلاد بعد توقيف المسار الإنتخابي ورحيل الشاذلي بن جديد، ولولا عبد السلام لما خرج كل من نزار وتواتي عن صمتهما الملزوم منذ سنوات، لكن ما كتبه بلعيد خطير ومثير لا يمكن السكوت عنه، خاصة بالنسبة لمن أدرج الرجل أسماءهم عند حديثه عن الظروف التي أحاطت بتعيينه رئيسا للحكومة و”العراقيل التي واجهته والمتسببين فيها”. ولأن الإتهامات كانت ثقيلة ومحرجة، سارع الجنرال تواتي إلى الدفاع عن نفسه والرد على بلعيد عبد السلام، حيث قال عنه أنه “فاشل ويحاول الآن تحميل الآخرين مسؤولية فشله”، مضيفًا أنه “لا يريد أن يبصق علي أي أحد وأن يتبول الحمض علي أي كان لأنني لا أحمل أي حقد ضد أي شخص وأريد فقط الرد علي تلك المذكرات بعيدًا عن الشتم ضد رئيس حكومة لا يهمني شخصه”، ونفى تواتي أية علاقة له مع جماعات المال والمستوردين الكبار، وقال أنه منع علي أولاده دخول عالم التجارة حتي لا يؤثر ذلك علي مهامه الوظيفية. وقد ثار الجدل بين بلعيد وتواتي، علي خلفية دفاع اللواء علي إقتراح إعادة جدولة الديون الجزائرية مع صندوق النقد الدولي سنة 1993، ومعارضة رئيس الحكومة حينها لذلك بحجة أن إعادة الجدولة تقيّد تحرك الدولة وتحد من هامش مناورتها، غير أن تواتي إعتبر أن الامر كان حينها ضروريًا بل حتميًا وسط أزمة امنية غير مسبوقة، و لأن المال عصب الحرب، فقد كان لزامًا على الجزائر الحصول علي أموال لإدارة المواجهة مع الجماعات المسلحة أنذاك، مشيرًا إلى أنه لولا الإتفاق مع الأفامي، لكانت الوضعية الأمنية كارثية سنوات 1995 و1996 و1997، لكن بلعيد إعتبر أن حرص اللواء تواتي علي إعادة جدولة الديون، كان بهدف فتح السوق الجزائرية أمام مجموعات الإستيراد- الإستيراد التي ظهرت فجأة وبدأت تضغط في ذلك الإتجاه ضعف الدولة الجزائرية.
يسجل متابعون، أن أخطر ما في الأمر، أن بلعيد إتهم اللواء تواتي بالإتصال، من وراء ظهره، بمسؤولي الخزينة العمومية الفرنسية بباريس لمعرفة حجم أموال الخزينة الجزائرية سنة 1993، بهدف الضغط عليه ودفعه إلي التوقيع علي إتفاق إعادة الجدولة مع صندوق النقد الدولي. وهو الاتهام الذي فنده اللواء تواتي شكلًا ومضمونًا، قائلًا بأن صلته الوحيدة بالجهات الفرنسية هي مع شرطة المطارات أثناء السفر، وقال أنه “لإعتبارات سياسية” رفض تولي حقيبة وزارة الداخلية التي إقترحها عليه بلعيد عبد السلام الذي ذكر بأنه لم يقترح أبدا إسم اللواء تواتي لوزارة الداخلية، بل إقترح بدلا عنه، يزيد زرهوني (وزير الداخلية الحالي) نظرًا لمعرفته الجيدة به.
عندما سئل رئيس الحكومة الأسبق بلعيد عبد السلام صاحب المذكرات، التي يقول عنها أنها ليست مذكرات بمعنى الكلمة بقدر ما هي خطوط عريضة أخرجها فقط ردًا على ما سبق وقاله الجنرال محمد تواتي حول نشاط حكومته، عن هذا التوقيت بالذات -لاسيما وأن ما يكتبه من كانوا في السلطة لا يمكن أن يكون بريئا بالمرة- على الرغم من أن ما قاله الجنرال تواتي في حكومته هو الآن في حكم الأرشيف، بعد أن مر على هذا الحوار الذي نشرته جريدة الوطن الفرنسية أكثر من ثلاث عشرة سنة، فقدم إجابته -كما قدم هذه المذكرات- بتعليل غير منطقي، كون الرد الفوري لم يتسن له في حينه بسبب ما تراكم عليه من أشغال، وعلل فاقت قدراته الصحية.
قد يكون هذا سببًا، لكن ليس هو السبب الجوهري، كما أنه ليس السبب الحقيقي الذي دفعه ليتحدث عن حقبة زمنية تعد من أحلك الحقب عبر التاريخ البشري مرت على الجزائر والجزائريين، هلكت الحرث والنسل، وأخرت الأمة الجزائرية لتي ناضلت لأكثر من قرن ونيّف من أجل استقلالها سنوات كثيرة إلى الوراء. لأن ما قاله من تبريرات حول رده المتأخر حينها يجعلنا نفكر فيما قاله ذلك من أمور لا تبدو جديدة علينا وعلى الشعب الجزائري.
بلعيد عبد السلام ومن خلال ما قاله بالإمكان استقراء الكثير من الأشياء التي ترد عليه كشخص مارس السلطات القمعية شأنه شأن الذين يشهر بهم اليوم عبر سطور قال أنها ليست بمذكرات، ومن بين هذه الأشياء أنه قال” وقع في بلادنا انقلاب سياسي حقيقي حتى وإن لم يعترف به مدبروه كي يمكنهم التهرب من المسؤولية ومن الاضطرار إلى الاضطلاع بمهام تسيير شؤون البلاد”، فماذا يعني هذا كله أم أن رئيس الحكومة الأسبق لم يكن يعلم أن من نصبوه رئيسا للحكومة بالتشاور معه في ذلك الوقت قد قاموا بانقلاب على الشرعية الدستورية، ودمروا البلاد باسم الحفاظ على الطابع الجمهوري، وما الفرق صراحة بين ما تفطن إليه صاحب نظرية “اقتصاد الحرب” كما يدعي في هذه الخربشات وما كانت الطبقة السياسية المحترمة تقوله من مثل عبد الحميد مهري، وحسين آيت أحمد، كذلك أين يكمن الفرق بين ما يروج له اليوم بلعيد عبد السلام وما قاله عبد القادر حشاني رحمه الله عقب إلغاء الانتخابات التشريعية في 11 يناير 1992 وإرغام الشاذلي بن جديد على الرحيل بعد حل البرلمان، وما الفرق بين هذه الحقائق المتأخرة وبين ما قالته قيادات الجبهة الإسلامية للإنقاذ وأغلب الناس عن إلغاء الدستور ”في الواقع، مواصلة العمل بالدستور من الناحية الشكلية على الرغم من تجاهله في الميدان إلى حد إبطال العمل به تقريبًا كان عبارة عن مراوغات سياسية وقانونية استطاع بفضلها الجنرال تواتي ومن وثق فيه التهرب من مسؤولياتهم بل، وبعبارة أكثر صراحة، إقامة نظام قائم على اللامسؤولية. هذا هو السبب الذي يسمح لمدبري عملية جانفي 1992 بمواصلة القول إن الرئيس الشاذلي استقال بعد حله للمجلس الوطني الشعبي وأن هذا الرئيس ترك لهم البلاد أمام فراغ دستوري كان عليهم أن يسدوه من خلال تأسيس المجلس الأعلى للدولة من طرف المجلس الأعلى للأمن بعدما رفض المجلس الدستوري الدخول في تلك اللعبة التي لم تخف على أحد. الاعتراف بإجبار الرئيس الشاذلي على الاستقالة إنما هو إقرار أن الرئيس لم يستقل ولم يتسبب في فراغ دستوري وإنما تم خيار اللجوء إلى هذا الحل بالقوة، أي إلى انقلاب في نهاية الأمر. فلو اعترف مدبرو عملية جانفي 1992 بالأمور كما وقعت فعلا لاضطروا إلى الإقرار بمسؤولية الانقلاب الذي قاموا به ومن ثمة إلى الاضطلاع صراحة بمسؤولية تسيير شؤون البلاد. لم يكن الحل الذي لجأوا إليه سوى تهربًا من المسؤولية مثلما يتهرب المنافق. هكذا، استطاعوا أن يحمِّلوا الوزر كله للمجلس الأعلى للدولة الذي أرادوه لهذه الغاية بالذات وباركوه بتنصيب شخصية تاريخية في ثورتنا على رأسه. الفراغ الدستوري الذي اختلقه هؤلاء تقرر في كنف السرية والتجاهل لتلك الأحكام الدستورية التي تنص على حالات حل المجلس الشعبي الوطني”.
…في الأخير هل هذه المذكرات أو هذا الرد الخاص على مرحلة معينة وفي حق الجنرال محمد تواتي، هي من باب صحوة الضمير أم لغاية في نفس من كان أحد صناع الأزمة الدموية التي هلكتنا جميعا؟!.
كاتب وباحث في العلاقات الدولية والسياسة الخارجية
ندرك جيدا أنه لا يستطيع الجميع دفع ثمن تصفح الصحف في الوقت الحالي، ولهذا قررنا إبقاء صحيفتنا الإلكترونية “راي اليوم” مفتوحة للجميع؛ وللاستمرار في القراءة مجانا نتمنى عليكم دعمنا ماليا للاستمرار والمحافظة على استقلاليتنا، وشكرا للجميع
للدعم: