إلى ذلك، وطبقاً للفنان السعودي القدير جميل محمود، فإن فن إيقاع الدانة الذي يعود تاريخه إلى ما قبل 870 عاماً، هو إيقاع مكي، ويعرف أيضاً بـ«الفن اليماني» نسبة إلى أحد سكان حارة الباب بمكة وهو «أبو جعفر يمن البيتي»، علماً بأن معظم نصوص الدانات من الشعر اليمني والحجازي الفصيح أو من المعلقات المعروفة.
ومن هنا لم يكن غريباً أن تنجب الحجاز قديماً وحديثاً الكثير من الأسماء التي تعملقت في عالم الغناء والطرب والموسيقى في المملكة العربية السعودية، ومنها على سبيل المثال الشريف هاشم العبدلي، وعبدالرحمن مؤذن (الأبلاتيت)، وحسن جاوه، وسعيد أبو خشبة، وصالح لبني، وإحسان قانونجي، ومحمد أحمد باجودة، وعمر باعشن، وعلي باعشن، وعبدالله مرشدي، ومحمد الريس، وفؤاد بنتن، ومصطفى إسكندراني، ومحمود حلواني، ومحسن شلبي، وإسماعيل كردوس، وعمر كدرس، وصولاً إلى طارق عبدالحكيم، وطلال مداح، وعبدالله محمد، وفوزي محسون، وجميل محمود، وغازي علي، وغيرهم. وبعض هؤلاء لعب دوراً مؤثراً وأميناً في الحفاظ على الموروث الشعبي والفلكلور الغنائي من جهة، وتطويره من جهة أخرى، والإضافة إليه من جهة ثالثة. ولعل أبرزهم هو الفنان الراحل محمد علي سندي، الذي يلقب بـ«الأمين الأول على عطاء التراث الغنائي الحجازي»، وبـ«قائد قافلة التراث الغنائي»، والذي سيكون محور حديثنا في هذه المادة بسبب عطائه الطويل وجمال صوته وإلمامه بالمقامات والمجسات المكية وشهرته بفن الدانة المكي وكفاحه من أجل نقل التراث بأمانة.
كتب عنه الزميل صادق الشعلان في مجلة «اليمامة» السعودية (25/6/2020): «يأخذك إلى مختلف العصور وأزمنتها القديمة عبر بساط من الطرب ليسمعك أجود ما جادت به قرائح الشعراء القدامى من نصوص الشعر والموشحات، متذوقاً في اختيار الجميل والعميق والمعبر والقوي منها وإعادة تدويرها بطريقة حديثة عبر إيقاع تراثي شعبي أصيل، مجسراً القديم بالحديث، فأضحى الاختيار الأمثل إنْ لم يكن الوحيد لكل راغب في الاستماع إلى فن الدانة والموشحات العربية، كونه أحد عمالقتها إنْ لم يكن ملكاً عليها. فإنْ ألفنا في كل زمان وكيلاً ومتعهداً لمنتج يهتم به ويرعاه ويكشف عن جودته، فالدانة تعهدها الفنان محمد علي سندي ورعاها وأزاح الالتباس الذي طالها وسعى إلى نشرها خارج حيز محدود أحاط بها».
وكتبت عنه آمال رتيب في «مجلة اقرأ» السعودية ( 28 /6/2018): «قبل ذلك الزمن الذي تسجل فيه شهادات الميلاد، ويعرف كل إنسان بيوم مولده، كان العطاء والبصمة المميزة هي التي تسجل شهادة الميلاد، هذه المقولة تنطبق على (محمد على سندي)، الذي لم تكن الأفراح في مكة تتم إلا بحضوره، فأهل مكة والحجاز عامة يعرفون تلك الأصابع الذهبية التي تطيعها أوتار العود فتنساب ألحاناً شجية، فكل من يعرف (على العقيق اجتمعنا)، و(بات ساجي الطرف)، و(مس ورد الخد)، و(يا عروس الروض)، بالتأكيد فهو يعرف محمد على سندي».
ولد «محمد علي سندي» في مكة المكرمة سنة 1905، ونشأ في رحابها الطاهرة فكان في طفولته يصغي بانتباه إلى نداء المؤذنين وتراتيل أئمة الحرم المكي في الصلوات الجهرية. أما في صباه فقد كان يحرص على مجالسة المؤذنين ليأخذ منهم أصول فن المقام. وإبان تلك المرحلة من حياته كان يستمع أيضاً بشغف وعشق إلى أغاني أم كلثوم وموسيقى محمد عبدالوهاب وغيرهم من عمالقة الفن المصريين. إلى ذلك كان يهرع إلى أصدقائه ليلاً فيجالسهم ويشاركهم العزف والغناء وترديد المقطوعات التراثية من فن المجرور. وفي هذا السياق، قال الفنان السعودي سراج عمر ما مفاده، إن نقطة الانطلاق الأولى لسندي كانت المناسبات الاجتماعية ومجالس الطرب والأنس التي كان يقيمها أهالي مكة في منازلهم لإحياء أفراحهم ومناسباتهم الخاصة. وهذا صحيح، لكن الصحيح أيضاً هو أن تشربه للون الغنائي التراثي كان بسبب المعرفة والصحبة الطويلة التي ربطته بعازف الكمان الفنان محمود حلواني والفنان محسن شلبي، وقد تعزز هذا الاتجاه لديه حينما راح يغني مع فناني مكة الكبار آنذاك من أمثال حسن جاوه وسعيد أبو خشبة وحسن لبني، الذين تعلم منهم العزف على العود والمزيد من ألوان الغناء الشعبي الفلكلوري القديم. ثم تلت تلك المرحلة مرحلة انتشاره التي لعبت فيها ثلاثة عوامل: صوته المميز، واعتماده التجديد والتطوير في غناء التراث الشعبي، وتوغله في الدانات المكية التي تعلم أصولها من رفاقه؛ الفنان محسن شلبي وضابط الإيقاع محمد باموسى والشيخ صالح باعرب.
شعر سندي أن الفن لا يطعم خبزاً ولا يوفر له دخلاً ثابتاً، فانتقل من مسقط رأسه وموطن ذكرياته إلى مدينة جدة، التي عثر فيها على وظيفة بمكتب المحروقات في مصلحة الطيران المدني، لكن قلبه ظل متعلقاً بمكة، فكان يذهب إلى شاطئ البحر ويشاهد النوارس البيضاء فيتذكر حمائم الحرم المكي محلقة حول الكعبة ويشتعل حنيناً لمواطن ذكرياته وصباه. وفي إحدى المرات وهو على هذه الحالة راح يغني:
يا عروس الروض يا ذات الجناح يا حمامة
سافري مصحوبة عند الصباح بالسلامة
واحملي شوق محب ذي جراح وهيامه
خبريها إن قلب المستهام ذاب وجدا
واسأليها كيف ذياك الغرام صار صدا
فغرامي لم يعد بعد فيه غرام بل تعدى.
يقول الناقد الفني محمد رجب، الذي عمل طويلاً في الصحافة الفنية السعودية، إن تلك الأغنية (يا عروس الروض) من كلمات الشاعر اللبناني المهجري إلياس حبيب فرحان (1893 ــ 1976)، وإنها تعد من أقدم الدانات المكية التي قام سندي بتركيبها على لحن تراثي في الأربعينات الميلادية، فساهمت بشكل كبير في شهرته وانتشاره.
بقي اشتياقه إلى مكة طاغياً، لكن يبدو أن بروزه الفني في جدة واختلاطه بأهل الفن فيها ونجاحه كمطرب يشار إليه بالبنان من خلال الإذاعة السعودية، جعله يواصل الإقامة في عروس البحر كي يستفيد من تسجيل أغانيه في الإذاعة أولاً، وفي التلفزيون لاحقاً، خصوصاً وأن همه كان نقل التراث وحفظه للأجيال القادمة وتوثيقه صوتاً وصورة.
ومن دلائل حرصه على التراث والموروث الشعبي الغنائي، الحجازي تحديداً، أنه قام بتأسيس فرقة موسيقية خاصة به مكونة من عازفي الكمان جميل مبارك، ومهنى ساعاتي، ومحسن شلبي، وعازف القانون حسين فدعق، وغيرهم، وذلك بهدف إبراز التراث الغنائي الحجازي بصورة أقوى وإيصاله إلى خارج الحدود.
يا عروس الروض
الذين كتبوا عنه، ومنهم الصديق الناقد الفني علي فقندش ضمن بحث نشرته له مجلة «الفيصل» (يوليو/ أغسطس 2016)، أجمعوا على أن سندي انشغل بالحفاظ على الفن الحجازي مثل الدانات القديمة والمجارير والفلكلور الشعبي والمجسات الأصيلة دون أن يغني أغاني خاصة به، ودون أن يسجل أعماله على أسطوانات، لكنه أعد عملاً يتيماً من التراث تمثل في قيامه بتركيب كلمات للشاعر السعودي الراحل أحمد سالم باعطب، المولود في المكلا سنة 1936 والمتوفى في جدة سنة 2010، على لحن من ألحان الدانات القديمة بعد تطويره وتجديده. والمقصود بهذا العمل أغنية «بطحاء مكة»، التي يقول مطلعها: «سلاماً مهبط الوحي.. سلاماً مبعث الإيمان.. سلاماً منبع الهدي.. منار العلم والعرفان». على أن صحيفة «الوطن» السعودية (13/ 8/ 2020)، قالت إنه كان يردد: «هذا الذي تستمعون إليه مني، أصوله التراث الغنائي والموسيقى في مكة المكرمة والحجاز بشكل عام، وأقوم أحياناً بإعداد بعض هذه الألحان من التراث، وأنا ليس لي إلا لحن واحد هو لأغنية رمضانية لحنتها وسجلتها لإذاعة جدة، أما باقي الألحان تعتبر من التراث، وتستطيعون أن تسموني إذا أعجبكم عملي، أنني مجرد ناقلٍ أمين لتراث الأجداد، لأن لكل أرض وأمة تراثها الغنائي».
من أهم الأغنيات في قائمة سندي الغنائية علاوة على أغنيتي «يا عروس الروض»، و«بطحاء مكة» المشار إليهما آنفاً: «نالت على يدها ما لم تنلهُ يدي» من كلمات يزيد بن معاوية، و«أراك عصي الدمع» من كلمات أبي فراس الحمداني، و«على العقيق اجتمعنا» من كلمات أبي الفتوح يحيى الشهير بــ«السهروردي»، و«أغار من قلبي» من كلمات قيس بن الملوح، و«بات ساجي الطرف» من كلمات فتح الله بن النحاس الحلبي، و«قف بالطواف» من كلمات عمر بن عبدالله بن أبي ربيعة، و«يا من هواه أعزه وأذلني» من كلمات السلطان سعيد بن أحمد البوسعيدي، و«ألا يا صبا نجد» من كلمات ابن الدمينة الأكلبي، و«أشارت بالمساء» من كلمات محمد بن عبدالله باحسين، و«مس ورد الخد» من كلمات مفتون.
ولسندي أيضاً قائمة من المواويل التي من أشهرها «الله أعزك بالجمال»، «الله كم في الخلق»، «أنت في حل»، «أنيري مقام البدر»، «بعد صفو الهوى»، «بلغوها»، «تسألني حلوة المبسم»، «تعالي يا ليلى»، «ذهب الهوى»، «صاح في العاشقين»، «عيني لغير جمالكم»، «غنى الهزار»، «قل للمليحة»، «لم هذه النار»، «يا جارة الوادي»، «مضنى وليس به حراك»، «مهد الغرام»، «نهاري نهار الناس»، «يا ظبية البان»، «يا خل»، «يا غلام»، «يا لهفة العاشق»، «يا مليح الحلى»، و«يا حبيبي أقبل الليل».
أوائل المشاركين في المناسبات
ومما يذكر عن فناننا، أنه كان من أوائل المشاركين في المناسبات الوطنية في الداخل والأسابيع الثقافية السعودية في الخارج، على الرغم من معاناة التنقل والانتظار. إذ شارك في الأسبوع الثقافي السعودي في الجزائر عام 1975، وفي تونس عام 1976، وفي المغرب عام 1977 دون أن يشكو قط أو يطلب مقابلاً.
وحينما تقدم به العمر، لم ينزو أو يتقاعد عن الغناء كغيره، وإنما واصل العطاء من خلال المشاركة في سهرات فنية بمنزل الفنان الراحل حسن عبدالرحيم في حي البغدادية بمدينة جدة، من تلك التي كانت تستقطب الكثيرين من محبي الفن الحجازي الأصيل ومن الشباب الراغب في التعرف على ألوان الغناء القديم، فكان سندي يغني لهم بأسلوبه الخاص وينقل لهم تراث الآباء والأجداد ويعلمهم كيفية أداء فن الدانة واستخدام الشعر الفصيح في الغناء.
وفي 19 أكتوبر 1985، أغمض سندي عينيه ورحل، مسدلاً بذلك الستار على تجربته الفريدة في الغناء وجهوده الدؤوبة للحفاظ على التراث والفلكلور الحجازي الأصيل، والتي بدأها عام 1933، واستمرت لحين وفاته رحمه الله. غير أن المؤسف حقاً هو ما وقع عليه من ظلم بعد رحيله. فمن جهة أهملت مكتبة التلفزيون السعودي بث ما سجله له صوتاً وصورة من مجسات ودانات حجازية وأغنيات تراثية في عام 1976، ومن جهة أغنية سعى ورثته المحافظون بشتى السبل وفي كل اتجاه إلى الحصول على أمر بمنع بث أو عرض أعماله. وأخيراً، حسناً فعلت جمعية الثقافة والفنون السعودية حينما أقامت في عام 2012 بمدينة جدة، حفل تكريم خاص لمحمد علي سندي.